تقاس المظاهر الحضارية لدولة بما لديها من مؤسسات ومنظمات اقتصادية واجتماعية وعلمية وغيرها، ولقد كان نظام المؤسسات بصورة عامة من أهم مميزات الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى, حيث كانت أوروبا تغط حينها في ثبات التخلف العميق.

وإذا أردنا أن تقف على لمحة من عظم هذه الحضارة الإسلامية وإنسانيتها, كان لنا أن نقف على حجم عنايتها الفائقة بالمرضى, وما وصلت إليه من تقدم مذهل في هذا الشأن, حيث جاءت الرعاية الطبية للمرضى في التاريخ الإسلامي مصحوبة بإقامة مؤسسات للعلاج والمداواة أطلق عليها اسم “بيمارستانات”.

ولم تكن وظيفة “البيمارستانات” تقتصر على مداواة المرضى وعلاجهم، بل كانت في الوقت نفسه معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب، يتخرج فيها المطببون والصيادلة والجراحون, وغيرهم, وهم على مستويات فائقة في الإتقان والعلم.

وقد عرض أحد علماء الحملة الفرنسية على مصر، في كتاب “وصف مصر”, وصفا تفصيليا لمستشفى قلاوون ,فأوضح ما كان عليه هذا المستشفى من شهرة وتنظيم ومستوى عال في خدمة المرضى، حتى أنه كان يقال: إن كل مريض ينفق عليه في كل يوم دينار.

وكان لكل مريض شخصان يقومان بخدمته، وكان المؤرقون, “مرضى الأرق”, يعزلون في قاعة منفردة يتسلون باستماع القصص، وكان لكل مريض عند خروجه من “المارستان” خمس قطع من الذهب حتى لا يضطر إلى الالتجاء إلى العمل الشاق قبل أن يستعيد صحته.

كما كانت قاعات المرضى تدفأ بإحراق البخور، أو تبرد بالمراوح الكبيرة، وكانت أرض القاعات تغطى بأغصان شجر الحناء أو شجر الرمان أو الشجيرات العطرية.

وكان المريض العقلي في بيمارستان دمشق يحظى بعلاج خاص، في عيادات متخصصة شديدة المراقبة، أو في أقسام الأمراض العصبية التي كانت المعالجات فيها دقيقة وحكيمة، تجرى من قبل أخصائيين، وبوسائل أقرب ما تكون إلى وسائلنا العصرية، كالخضوع للمنوم الصحي.

وإذا كانت هذه الشهادة من جانب علماء الحملة الفرنسية على مصر تعكس المستوى الحضاري الذي كانت عليه المؤسسات الطبية في العصر الإسلامي، فإن الحال في الغرب كانت آنذاك على النقيض، حيث شهد كتاب الغرب على ما كان يدور في مستشفى “أوتيل ديو”, وهو أقدم مستشفى في باريس في القرون الوسطى, وجاءت شهادتهم مروعة.

وجاء في تلك الشهادة: كان ثمة قش كثير موضوع على الأرض، تزاحم عليه المرضى، وأقدام بعضهم إلى جانب رؤوس الآخرين, الأطفال قرب الشيوخ، والرجال بجانب النساء بشكل يدعو إلى العجب, وكان قرب المتوعكين توعكًا بسيطًا أناس ذوو أمراض معدية، وأناس كثيرون، منهم الحبلى التي تعاني آلام المخاض، والطفل الذي يعاني سكرات الموت، ومريض السل الذي مزق صدره السعال يبصق دماء والمصاب بالمرض الجلدي يمزق جسمه بأظافره حكًا.

وكانت جثث الموتى من المرضى تترك حتى يدب فيها الفساد. فتفوح الروائح النتنة في الأجواء، وينقض البعوض ويهجم ممعنا نهشًا وأكلاً من اللحم العفن، ويضطر المرضى الآخرون أن يشاطروا الجثث هذا
المكان قبل أن تنقل.

وكان شفاء الاضطرابات النفسية والعقلية, يتمثل في خضوع المريض, للكاهن لاستخراج العفريت الذي يسيطر على المريض، وبالتالي فإن ذلك يعني أنهم في حال عجزهم عن استخراج هذا العفريت الذي ركب هذا المريض، لجئوا إلى تكبيله وسجنه وحجزه مدى الحياة في ملاجئ للمعتوهين.

هذه لمحة من تاريخنا تغوص في بحور النسيان, ونحن أحوج من نكون إلى تذكرها, لندلل على عظمة هذا التاريخ من ناحية, ولنؤكد أن تاريخنا ليس فقط صراع ودماء على السلطة, ولتدب الحمية في نفوسنا, ونحذو حذو الآباء والأجداد.